تكتب ناتالي توتشي أن أوروبا، بعد عام على الإطاحة ببشار الأسد، تقف اليوم في موقع هش وغير مسبوق في الشرق الأوسط. تروي الكاتبة أنها استمعت في منتدى الدوحة إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، وهو يعرض مسار بلاده نحو نظام تشاركي قائم على القواعد، فبدت المفارقة صارخة: بينما تحاول دول في الإقليم إعادة بناء شرعياتها، تخسر أوروبا ما تبقى من رصيدها الأخلاقي والسياسي، خاصة بعد موقفها من حرب غزة وإقصائها الذاتي من ملف إيران النووي.

 

توضح توتشي في المقال الذي نشرته صحيفة الجارديان تراجع الدور الأوروبي في الشرق الأوسط، وتحوّل القارة من لاعب مؤثر إلى طرف هامشي بالكاد يُستشار.

 

من الهيمنة إلى التهميش

 

تشرح الكاتبة أن العلاقة الأوروبية – الأميركية في الشرق الأوسط استقرت لعقود على معادلة واضحة: تقود واشنطن، وتلحق أوروبا، أحيانًا مع تحفظات. منذ أزمة السويس عام 1956، قبل الأوروبيون بهذا الدور الثانوي مقابل الحماية الأمنية الأميركية. ورغم الخلافات، كما حدث في غزو العراق عام 2003، حافظ الإطار العام على تماسكه. لعبت أوروبا أدوارًا دبلوماسية مهمة، أبرزها دعم مسار أوسلو، والمساهمة بصبر في بناء الاتفاق النووي مع إيران.

 

لكن هذا الإطار انهار. استهلكت حرب أوكرانيا معظم طاقة أوروبا السياسية، وشوّهت رؤيتها للشرق الأوسط. سعت العواصم الأوروبية إلى ضمان دعم واشنطن في مواجهة روسيا، فقبلت بسياسات أميركية دون مساءلة، بما فيها الضربات غير القانونية ضد إيران. في هذا السياق، تحوّلت طهران من ملف إشكالي إلى خصم مباشر، ليس بسبب سلوكها الإقليمي فقط، بل بسبب تقاطعها الاستراتيجي مع موسكو.

 

غزة.. لحظة السقوط الأخلاقي

 

ترى توتشي أن الضربة القاضية لمصداقية أوروبا جاءت من موقفها من حرب غزة. رفضت معظم الحكومات الأوروبية استخدام أي نفوذ حقيقي لوقف الحرب الإسرائيلية المدمّرة، ما حطّم ما تبقى من صورتها كفاعل قائم على القيم. حين صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن إسرائيل تؤدي “العمل القذر” نيابة عن أوروبا في إيران، سقط القناع بالكامل.

 

لم تعد أوروبا تُتّهم بازدواجية المعايير، بل بانعدام المعايير أصلًا. باستثناء دول قليلة مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا وأحيانًا فرنسا، اختفت المبادئ، وغاب التأثير. لم يعد أحد في الإقليم ينتظر مبادرة أوروبية لوقف إطلاق نار في غزة أو لإحياء أفق الدولة الفلسطينية. اختبأ القادة الأوروبيون خلف خطة السلام التي طرحها دونالد ترامب، وتهرّبوا من ممارسة أي ضغط فعلي على إسرائيل.

 

توضح الكاتبة أن أي أمل محدود في غزة يأتي اليوم من وساطة قطر، مع أدوار محورية لتركيا والسعودية ومصر. أما ملف إيران، فخرج هو الآخر من اليد الأوروبية، بعدما قوّضت دول الترويكا الأوروبية الاتفاق النووي عبر تفعيل آلية “سناب باك”. باتت أي تسوية محتملة رهينة تقارب خليجي – إيراني، لا مبادرة أوروبية.

 

نافذة ضيقة في المشرق

 

رغم هذا التراجع الحاد، تحذّر توتشي من وهم الانسحاب الدائم. الشرق الأوسط يظل جوار أوروبا المباشر، ولا يمكن تجاهله طويلًا. مع تقلص هامش الحركة، تقترح الكاتبة أن تعيد أوروبا توجيه تركيزها نحو المشرق الأوسع، تحديدًا لبنان والعراق وسوريا.

 

لبنان يمر بمسار إصلاحي هش، تحت ظل تهديد الحرب واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لنقاط داخل أراضيه. العراق يحاول الحفاظ على توازن دقيق، ساعيًا إلى قدر أكبر من الاستقلال دون استفزاز إيران. أما سوريا، فتبقى دولة شديدة الهشاشة، تحاول الموازنة بين العدالة والتماسك الاجتماعي، بينما تواجه سياسة إسرائيلية توسعية وعدوانية.

 

تشير توتشي إلى أن الولايات المتحدة، باستثناء اهتمام محدود بسوريا، لا تُظهر انخراطًا جديًا في لبنان أو العراق. ومع أهمية أدوار اللاعبين الإقليميين، سواء النفوذ الأمني التركي أو الدعم الاقتصادي الخليجي، يبقى هناك فراغ حقيقي في مجال دعم الحوكمة وبناء المؤسسات. هنا، ترى الكاتبة، تكمن الفرصة الأوروبية الأخيرة.

 

تختم توتشي بالقول إن النظام الدولي الليبرالي يمر بحالة تفكك، وقد لا تبدو مفاهيم الحوكمة الرشيدة جذابة سياسيًا، لكنها لا تزال مطلوبة وضرورية في المشرق. إذا أرادت أوروبا استعادة أي دور مستقل وبنّاء، فعليها أن تبدأ من حيث لا تزال الحاجة قائمة، لا من الملفات التي خسرتها بالكامل.



https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/dec/19/europe-middle-east-syria-iraq-lebanon-donald-trump